فصل: من فوائد ابن العربي في الآيات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} مَعْنَاهُ أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالتَّأْوِيلُ هُوَ الَّذِي إلَيْهِ مَرْجِعُ الشَّيْءِ وَتَفْسِيرُهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: آلَ يُؤَوِّلُ أَوَّلًا إذَا رَجَعَ.
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ} الْقَفْوُ اتِّبَاعُ الْأَثَرِ مِنْ غَيْرِ بَصِيرَةٍ وَلَا عِلْمٍ بِمَا يَصِيرُ إلَيْهِ، وَمِنْهُ الْقَافَةُ وَكَانَتْ الْعَرَبُ فِيهَا مَنْ يَقْتَافُ الْأَثَرَ وَفِيهَا مَنْ يَقْتَافُ النَّسَبَ، وَقَدْ كَانَ هَذَا الِاسْمُ مَوْضُوعًا عِنْدَهُمْ لِمَا يُخْبِرُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةٍ، يَقُولُونَ: تَقَوَّفَ الرَّجُلُ إذَا قَالَ الْبَاطِلَ قَالَ جَرِيرٌ: وَطَالَ حِذَارِي خِيفَةَ الْبَيْنِ وَالنَّوَى وَأُحْدُوثَةٍ مِنْ كَاشِحٍ مُتَقَوِّفِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ الْبَاطِلَ.
وَقَالَ آخَرُ: وَمِثْلُ الدُّمَى شَمُّ الْعَرَانِينِ سَاكِنٌ بِهِنَّ الْحَيَاءُ لَا يُشِعْنَ التَّقَافِيَا أَيْ التَّقَاذُفَ.
وَإِنَّمَا سُمِّيَ التَّقَاذُفُ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّ أَكْثَرَهُ يَكُونُ عَنْ غَيْرِ حَقِيقَةٍ وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ بِكَذِبِ الْقَاذِفِ إذَا لَمْ يَأْتِ بِالشُّهُودِ بِقَوْلِهِ: {لَوْلَا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إفْكٌ مُبِينٌ} قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ}: لَا تَقُلْ سَمِعْت وَلَمْ تَسْمَعْ وَلَا رَأَيْت وَلَمْ تَرَهُ وَلَا عَلِمْت وَلَمْ تَعْلَمْ.
وَقَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ نَهْيَ الْإِنْسَانِ عَنْ أَنْ يَقُولَ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ عَلَى جِهَةِ الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ وَأَنْ لَا يَقُولَ فِي النَّاسِ مِنْ السُّوءِ مَا لَا يَعْلَمْ صِحَّتَهُ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَخْبَرَ عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَهُوَ آثِمٌ فِي خَبَرِهِ كَذِبًا كَانَ خَبَرُهُ أَوْ صِدْقًا لِأَنَّهُ قَائِلٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَقَدْ نَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.
قَوْله تَعَالَى: {إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} فِيهِ بَيَانٌ أَنَّ لِلَّهِ عَلَيْنَا حَقًّا فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْفُؤَادِ وَالْمَرْءُ مَسْئُولٌ عَمَّا يَفْعَلُهُ بِهَذِهِ الْجَوَارِحِ مِنْ الِاسْتِمَاعِ بِمَا لَا يَحِلُّ وَالنَّظَرُ إلَى مَا لَا يَجُوزُ وَالْإِرَادَةُ لِمَا يُقَبِّحُ.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ} فِي نَفْيِ الْقِيَاسِ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ وَإِبْطَالِ خَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُمَا لَا يُفْضِيَانِ بِنَا إلَى الْعِلْمِ وَالْقَائِلُ بِهِمَا قَائِلٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا قَامَتْ دَلَالَةُ الْقَوْلِ بِهِ فَلَيْسَ قَوْلًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَالْقِيَاسُ وَأَخْبَارُ الْآحَادِ قَدْ قَامَتْ دَلَائِلُ مُوجِبَةٌ لِلْعِلْمِ بِصِحَّتِهِمَا وَإِنْ كُنَّا غَيْرَ عَالِمِينَ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ، وَعَدَمُ الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ غَيْرُ مَانِعٍ جَوَازَ قَبُولِهِ وَوُجُوبَ الْعَمَلِ بِهِ، كَمَا أَنَّ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ يَجِبُ قَبُولُهَا إذَا كَانَ ظَاهِرُهُمَا الْعَدَالَةَ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ لَنَا الْعِلْمُ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهِمَا، وَكَذَلِكَ أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعَ فَقْدِ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ الْخَبَرِ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ} غَيْرُ مُوجِبٍ لِرَدِّ أَخْبَارِ الْآحَادِ كَمَا لَمْ يُوجِبْ رَدَّ الشَّهَادَاتِ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ فَإِنَّ مَا كَانَ مِنْهُ مِنْ خَبَرِ الِاجْتِهَادِ فَكُلُّ قَائِلٍ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَقَاوِيلِ الَّتِي يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ فَهُوَ قَائِلٌ بِعِلْمٍ؛ إذْ كَانَ حُكْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ.
وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: عِلْمٌ حَقِيقِيٌّ وَعِلْمٌ ظَاهِرٌ، وَاَلَّذِي تَعَبَّدْنَا بِهِ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْعِلْمُ الظَّاهِرُ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ} وَإِنَّمَا هُوَ الْعِلْمُ الظَّاهِرُ لَا مَعْرِفَةَ مَغِيبِ ضَمَائِرِهِنَّ وَقَالَ إخْوَةُ يُوسُفَ: {وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} فَأَخْبَرُوا أَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْعِلْمِ الظَّاهِرِ.
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قَرَأْت الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} قِيلَ: إنَّهُ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ لَهُمْ بِمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ الْحِكْمَةِ فِي الْقُرْآنِ، فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حِجَابًا عَنْ أَنْ يُدْرِكُوهُ فَيَنْتَفِعُوا بِهِ.
وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ قَتَادَةَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: نَزَلَ فِي قَوْمٍ كَانُوا يُؤْذُونَهُ بِاللَّيْلِ إذَا تَلَا الْقُرْآنَ فَحَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ حَتَّى لَا يُؤْذُوهُ.
وَقَالَ الحسن: مَنْزِلَتُهُمْ فِيمَا أَعْرَضُوا عَنْهُ مَنْزِلَةٌ مِنْ بَيْنِك وَبَيْنَهُ حِجَاب قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} قِيلَ فِيهِ: إنَّهُ مَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ لَيْلًا فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ لِئَلَّا يُؤْذُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: جَعَلْنَاهَا بِالْحُكْمِ أَنَّهُمْ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، ذَمًّا لَهُمْ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ تَفَهُّمِ الْحَقِّ وَالِاسْتِمَاعِ إلَيْهِ مَعَ إعْرَاضِهِمْ وَنُفُورِهِمْ عَنْهُ. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في الآيات:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّك أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبْرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى:
قَوْلُهُ: {وَقَضَى}.
قَدْ بَيَّنَّا تَفْسِيرَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي كِتَابِ الْمُشْكَلَيْنِ بِجَمِيعِ وُجُوهِهَا، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ مِنْ مَعَانِيهَا خَلَقَ، وَمِنْهَا أَمَرَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا هَاهُنَا إلَّا أَمَرَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ يُتَصَوَّرُ وُجُودُ مُخَالَفَتِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ خِلَافِ مَا خَلَقَ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ الْخَالِقُ؛ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِعِبَادَتِهِ، وَبِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ مَقْرُونًا بِعِبَادَتِهِ، كَمَا قَرَنَ شُكْرَهُمَا بِشُكْرِهِ، وَلِهَذَا قَرَأَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ: وَوَصَّى رَبُّك.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ».
وَعَنْ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: «الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ».
وَمِنْ الْبِرِّ إلَيْهِمَا، وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا أَلَا نَتَعَرَّضَ لِسَبِّهِمَا، وَهِيَ:
المسألة الثانية:
فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ».
حَتَّى إنَّهُ يَبَرُّهُ وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا إذَا كَانَ لَهُ عَهْدٌ قَالَ اللَّه: {لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} وَهِيَ:
المسألة الثالثة:
قَوْله تَعَالَى: {إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَك الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا}: خَصَّ حَالَةَ الْكِبَرِ؛ لِأَنَّهَا بِطُولِ الْمَدَى تُوجِبُ الِاسْتِثْقَالَ عَادَةً، وَيَحْصُلُ الْمَلَلُ، وَيَكْثُرُ الضَّجَرُ، فَيَظْهَرُ غَضَبُهُ عَلَى أَبَوَيْهِ، وَتَنْتَفِخُ لَهُمَا أَوْدَاجُهُ، وَيَسْتَطِيلُ عَلَيْهِمَا بِدَالَّةِ الْبُنُوَّةِ، وَقِلَّةِ الدِّيَانَةِ.
وَأَقَلُّ الْمَكْرُوهِ أَنْ يُؤَفِّفَ لَهُمَا؛ وَهُوَ مَا يُظْهِرُهُ بِتَنَفُّسِهِ الْمُرَدَّدِ مِنْ الضَّجَرِ.
وَأَمَرَ بِأَنْ يُقَابِلَهُمَا بِالْقَوْلِ الْمَوْصُوفِ بِالْكَرَامَةِ، وَهُوَ السَّالِمُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ مِنْ عُيُوبِ الْقَوْلِ الْمُتَجَرِّدِ عَنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ مِنْ مَكْرُوهِ الْأَحَادِيثِ.
ثُمَّ قَالَ، وَهِيَ:
المسألة الرابعة:
{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ}: الْمَعْنَى تَذَلَّلْ لَهُمَا تَذْلِيلَ الرَّعِيَّةِ لِلْأَمِيرِ، وَالْعَبِيدِ لِلسَّادَةِ؛ وَضَرَبَ خَفْضَ الْجَنَاحِ وَنَصْبَهُ مَثَلًا لِجَنَاحِ الطَّائِرِ حِينَ يَنْتَصِبُ بِجَنَاحِهِ لِوَلَدِهِ أَوْ لِغَيْرِهِمْ مِنْ شِدَّةِ الْإِقْبَالِ.
وَالذُّلُّ هُوَ اللِّينُ وَالْهَوْنُ فِي الشَّيْءِ، ثُمَّ قَالَ، وَهِيَ:
المسألة الخامسة:
{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}: مَعْنَاهُ: اُدْعُ لَهُمَا فِي حَيَاتِهِمَا وَبَعْدَ مَمَاتِهِمَا بِأَنْ يَكُونَ الْبَارِئُ يَرْحَمُهُمَا كَمَا رَحِمَاك، وَتَرَفَّقْ بِهِمَا كَمَا رَفَقَا بِك؛ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُجْزِي الْوَالِدَ عَنْ الْوَلَدِ؛ إذْ لَا يَسْتَطِيعُ الْوَلَدُ كِفَاءً عَلَى نِعْمَةِ وَالِدِهِ أَبَدًا.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ}، مَعْنَاهُ يُخَلِّصُهُ مِنْ أَسْرِ الرِّقِّ كَمَا خَلَّصَهُ مِنْ أَسْرِ الصِّغَرِ.
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُمَا وَلِيَاهُ صَغِيرًا جَاهِلًا مُحْتَاجًا، فَآثَرَاهُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا، وَسَهِرَا لَيْلَهُمَا وَأَنَامَاهُ، وَجَاعَا وَأَشْبَعَاهُ، وَتَعَرَّيَا وَكَسَوَاهُ، فَلَا يُجْزِيهِمَا إلَّا أَنْ يَبْلُغَا مِنْ الْكِبَرِ إلَى الْحَدِّ الَّذِي كَانَ هُوَ فِيهِ مِنْ الصِّغَرِ، فَيَلِي مِنْهُمَا مَا وَلِيَا مِنْهُ، وَيَكُونُ لَهُمَا حِينَئِذٍ عَلَيْهِ فَضْلُ التَّقَدُّمِ بِالنِّعْمَةِ عَلَى الْمُكَافِئِ عَلَيْهَا.
وَقَدْ أَخْبَرَنِي الشَّرِيفُ الْأَجَلُّ الْخَطِيبُ نَسِيبُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ الْقَاضِي ذُو الشَّرَفَيْنِ أَبُو الْحُسَيْنِ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْحُسَيْنِيُّ بِدِمَشْقَ، أَنْبَأَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الشِّيرَازِيِّ بِمَكَّةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، سَمِعْتُهُ دَاخِلَ الْكَعْبَةِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، وَكَانَ حَافِظًا، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ رَيْدَةَ الضَّبِّيُّ الْأَصْبَهَانِيُّ بِأَصْبَهَانَ قِرَاءَةً، أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ الْحَافِظُ الطَّبَرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ الْبَرْدَعِيُّ بِمِصْرَ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ عُبَيْدُ بْنُ خَلَصَةَ بِمَعَرَّةِ النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ الْمَدَنِيُّ عَنْ الْمُنْكَدِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ؛ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّ أَبِي أَخَذَ مَالِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلِ: فَأْتِنِي بِأَبِيك فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُقْرِئُك السَّلَامَ، وَيَقُولُ لَك: إذَا جَاءَك الشَّيْخُ فَاسْأَلْهُ عَنْ شَيْءٍ قَالَهُ فِي نَفْسِهِ، مَا سَمِعَتْهُ أُذُنَاهُ، فَلَمَّا جَاءَ الشَّيْخُ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَالُ ابْنِك يَشْكُوك؟ أَتُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَ مَالَهُ؟ فَقَالَ: سَلْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ أُنْفِقُهُ إلَّا عَلَى إحْدَى عَمَّاتِهِ أَوْ خَالَاتِهِ أَوْ عَلَى نَفْسِي؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إيهٍ دَعْنَا مِنْ هَذَا، أَخْبِرْنِي عَنْ شَيْءٍ قُلْته فِي نَفْسِك مَا سَمِعَتْهُ أُذُنَاك فَقَالَ الشَّيْخُ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَزَالُ اللَّهُ تَعَالَى يَزِيدُنَا بِك يَقِينًا، لَقَدْ قُلْت فِي نَفْسِي شَيْئًا مَا سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، فَقَالَ: قُلْ وَأَنَا أَسْمَعُ» قَالَ: قُلْت:
غَذَوْتُك مَوْلُودًا وَمُنْتُك يَافِعًا ** تَعِلُّ بِمَا أَجْنِي عَلَيْك وَتَنْهَلُ

إذَا لَيْلَةٌ ضَافَتْك بِالسَّقَمِ لَمْ أَبِتْ ** لِسُقْمِكَ إلَّا سَاهِرًا أَتَمَلْمَلُ

كَأَنِّي أَنَا الْمَطْرُوقُ دُونَك بِاَلَّذِي ** طُرِقْت بِهِ دُونِي فَعَيْنِي تَهْمُلُ

تَخَافُ الرَّدَى نَفْسِي عَلَيْك وَإِنَّهَا ** لَتَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ وَقْتٌ مُؤَجَّلٌ

فَلَمَّا بَلَغْت السِّنَّ وَالْغَايَةَ الَّتِي ** إلَيْهَا مَدَى مَا كُنْت فِيك أُؤَمِّلُ

جَعَلْت جَزَائِي غِلْظَةً وَفَظَاظَةً ** كَأَنَّك أَنْتَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ

فَلَيْتَك إذْ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتِي ** فَعَلْت كَمَا الْجَارُ الْمُجَاوِرُ يَفْعَلُ

قَالَ: فَحِينَئِذٍ أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَلَابِيبِ ابْنِهِ، وَقَالَ: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك».
قَالَ سُلَيْمَانُ: لَا يُرْوَى هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ بِهَذَا التَّمَامِ وَالشِّعْرِ إلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، تَفَرَّدَ بِهِ عُبَيْدُ بْنُ خَلَصَةَ.
وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْمَعَالِي ثَابِتُ بْنُ بُنْدَارٍ فِي دَارِنَا بالمُعْتَمِدِيَّةِ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنِ غَالِبٍ الْحَافِظِ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، حَدَّثَنَا سُوَيْد بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ شُجَاعِ بْنِ قَيْسِ بْنِ هِشَامٍ السَّكُونِيِّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَيْنَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَمْشُونَ إذْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ، فَأَوَوْا إلَى غَارٍ فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَا هَؤُلَاءِ، لَا يُنْجِيكُمْ إلَّا الصِّدْقُ، فَلْيَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ: فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَجِيرٌ، عَمِلَ لِي عَلَى فَرْقِ أُرْزٍ، فَذَهَبَ وَتَرَكَهُ، فَزَرَعْته، فَصَارَ مِنْ أَمْرِهِ أَنِّي اشْتَرَيْت مِنْ ذَلِكَ الْفَرْقِ بَقَرًا، ثُمَّ أَتَانِي يَطْلُبُ أَجْرَهُ، فَقُلْت لَهُ: اعْمِدْ إلَى تِلْكَ الْبَقَرِ، فَسُقْهَا فَإِنَّهَا مِنْ ذَلِكَ الْفَرْقِ فَسَاقَهَا فَإِنْ كُنْت فَعَلْت ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِك فَفَرِّجْ عَنَّا، فَانْسَاحَتْ عَنْهُمْ الصَّخْرَةُ فَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكَانَتْ لِي غَنَمٌ، وَكُنْت آتِيهِمَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ لِي، فَأَبْطَأْت عَنْهُمَا ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَأَتَيْتهمَا وَقَدْ رَقَدَا وَأَهْلِي وَعِيَالِي يَتَضَاغَوْنَ مِنْ الْجُوعِ، وَكُنْت لَا أَسْقِيهِمْ حَتَّى يَشْرَبَ أَبَوَايَ، فَكَرِهْت أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ رَقْدَتِهِمَا، وَكَرِهْت أَنْ أَرْجِعَ فَيَسْتَيْقِظَا لِشُرْبِهِمَا، فَلَمْ أَزَلْ أَنْتَظِرُهُمَا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَقَامَا فَشَرِبَا، فَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْت ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِك فَفَرِّجْ عَنَّا، فَانْسَاحَتْ عَنْهُمْ الصَّخْرَةُ، حَتَّى نَظَرُوا إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَتْ لِي ابْنَةُ عَمٍّ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إلَيَّ، وَإِنِّي رَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ عَلَيَّ إلَّا أَنْ آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَطَلَبْتهَا حَتَّى قَدَرْت عَلَيْهَا، فَجِئْت بِهَا فَدَفَعْتهَا إلَيْهَا فَأَمْكَنَتْنِي مِنْ نَفْسِهَا، فَلَمَّا قَعَدْت بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ لِي: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَفُضَّ الْخَاتَمَ إلَّا بِحَقِّهِ فَقُمْت عَنْهَا، وَتَرَكْت لَهَا الْمِائَةَ دِينَارٍ فَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنِّي تَرَكْت ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِك فَافْرِجْ عَنَّا، فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَخَرَجُوا يَمْشُونَ» وَمِنْ تَمَامِ بِرِّ الْأَبَوَيْنِ صِلَةُ أَهْلِ وُدِّهِمَا، لِمَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ».
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسُخْطُ الرَّبِّ فِي سُخْطِ الْوَالِدَيْنِ» خَرَّجَهُمَا التِّرْمِذِيُّ.
وَلِذَلِكَ عَدَلَ عُقُوقُهُمَا الْإِشْرَاكَ فِي الْإِثْمِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِرَّهُمَا قَرِينُ الْإِيمَانِ فِي الْأَجْرِ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَخْبَرَنَا الشَّرِيفُ الْأَجَلُّ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الشَّاشِيُّ بِهَا قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ فِي كِتَابِهِ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عِيسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْوَزِيرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْغَسِيلِ، عَنْ أُسَيْدَ عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي أُسَيْدَ، وَكَانَ بَدْرِيًّا قَالَ: كُنْت عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ «هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ وَالِدِيَّ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِمَا شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا بَعْدَهُمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا رَحِمَ لَك إلَّا مِنْ قِبَلِهِمَا، فَهَذَا الَّذِي بَقِيَ عَلَيْك».